الأربعاء، 11 مايو 2016

أشواك الورد للكاتب إيهاب بديوي












أشواك الورد
(قصة بوليسية)
تعالت الصرخات المدوية في أركان المصنع الصغير، هرج ومرج والجميع يجري في اتجاه الصوت، إنها غرفة المغسلة متوسطة الحجم التي يتجمع فيها الإنتاج لغسله قبل كيه وتعبئته. كل من يصل كان يخرج مسرعا وعلامات الفزع الهائل على وجهه. حتى وصل أخيرا مسئول الأمن فوجد الجثة المشوهة بطريقة عجيبة ملقاة على ظهرها في جانب الغرفة، بينما تتدلى يد مهترئة من المغسلة الكبيرة نسبيا.
لم يتمالك نفسه فأرجع ما في جوفه كله ثم أسرع بإبلاغ صاحب المصنع الذي أبلغ بدوره الشرطة بعد أن طلب إغلاق الغرفة حتى قدومها. وصل المقدم صلاح رئيس مباحث المنطقة ومعه السيد رشيد رئيس النيابة لخطورة البلاغ. ذهبوا إلى المغسلة فوجدوا المهندس حامد مدير الإنتاج وقد ذابت المنطقة بين فمه ومعدته تقريبا وبدت باللون البني المائل للسواد مشوهة تماما وتكاد تكون محترقة وعيونه مفتوحة في فزع، بينما اليد المتدلية من المغسلة يبدو أنها معلقة بجسد أنثوي قد سحقته آلة الغسيل.
حضر الدكتور حسن ممثل الطب الشرعي ومساعدوه وطلب إخلاء المكان للفحص فخرج المحقق ورئيس النيابة مع المهندس رامي مدير المصنع إلى غرفة السيد جلال صاحب المصنع الذي منعه عمره الكبير من النزول إلى موقع الجريمة. سمح لرئيس النيابة بالجلوس على مكتبه فبادر بسؤاله:
هل عرفتم شخصية الفتاة أو السيدة؟
نظر جلال إلى رامي فأسرع يجيبه: أغلب الظن أنها شيرين المسئولة عن تسليم المنتجات إلى المغسلة لأن أحدا لا يجدها بين العاملين وقد كانت موجودة منذ الصباح ولم تخرج من المصنع.
المحقق: نبذة سريعة عنها لو سمحت؟
رامي: فتاة في العشرين تقريبا، حاصلة على مؤهل متوسط وتعمل هنا منذ خمسة أعوام مع والدتها، مخطوبة لوحيد مدير الجودة في المصنع.
رئيس النيابة: وماذا عن المهندس حامد؟
جلال: بدأ معنا منذ فتحنا المصنع تقريبا، شخصية هادئة مخلصة وقورة يحبها الجميع. ودقيق جدا في عمله.
المحقق: نريد إحضار وحيد.
رامي: للأسف، اختفى هو الآخر وقت اكتشاف الجريمة، بحثنا عنه في كل مكان، لا أثر له.
نظر المحقق لرئيس النيابة الذي بادر قائلا:
أول مشتبه به إذن، أرسل قوة للبحث عنه يا سيد صلاح.
صلاح: فورا.
ثم قام يتحدث في الهاتف في نفس الوقت الذي التقى فيه جنديا يطلب منه ومن السيد رشيد الذهاب لغرفة الجريمة لأمر هام.
نزلا مسرعين ودخلا مسرح الجريمة، فوجئا بالدكتور حسن يخبرهما أنه تم العثور على جثة ثالثة في المغسلة، مشوهة المعالم لكن من الهوية الشخصية يبدو إسم وحيد.
تعقدت المسألة إذن. هكذا بدا تعبير وجهيهما. طلبا توضيحا أكثر من الدكتور حسن الذي تحدث قائلا:
الضحية الأولى توفي نتيجة تناوله مادة كاوية في الغالب ستكون حامض الكبريتيك المركز ولكن سيتم التأكد منها في المعمل، ولسبب ما نزلت المادة السائلة على وجهه وصدره فأحدثت هذا المظهر الشبيه بالحروق الشديدة. الضحية الثانية وضعت في المغسلة أو قفزت فيها ربما لإنقاذ الضحية الثالثة الذي كان جسده شبه ذائب بسبب المياه الساخنة لدرجة الغليان، لكن يبدو أن أحدا ما فصل الحرارة وشغل التبريد بمجرد نزول الفتاة لأن التشوه فيها أقل لكن تعرضت لضربة قوية جدا في منطقة الصدر أحدثت نزيفا داخليا حادا أدى للوفاة الفورية.
رئيس النيابة: شخص ما حاول إنقاذها.
المحقق: إذن نحن أمام جريمة مركبة. مبدئيا شخص ما ألقى من يمكن أن نطلق عليه وحيد حتى يتم التأكد النهائي من شخصيته. وفي نفس الوقت كان المهندس حامد قد مات أو في حالة احتضار بسبب تناوله المادة الكيماوية. الصرخة التي سمعها كثيرون ربما كان مصدرها شيرين حين شاهدت الموقف، حاولت إنقاذ خطيبها فقفزت خلفه ولكنها سقطت في المغسلة.
رئيس النيابة: شخص مجهول كان واقفا هنا وربما كان الجاني الذي تسبب في الجريمتين، لكنه فوجئ بما فعلته شيرين فحاول إنقاذها.
المحقق: ولابد أنه كان يعرف كيفية تشغيل المغسله وتحويلها من الساخن للبارد.
الدكتور: هذا تصور مبدئي يتوافق مع ما نراه هنا، شيئ آخر، الزجاجة التي وجدنا بها المادة الكاوية فيما يبدو زجاجة شرب شخصية ربما كانت ملكا للمجني عليه.
المحقق: تقصد أن أحدا ما ربما وضع المادة الكاوية عمدا؟
الدكتور: احترق حتى الموت من الداخل وبسرعة جدا، الموقف كله حدث بسرعة غير منطقية وفي نفس الوقت تقريبا.
رئيس النيابة: سنكمل تحقيقاتنا مع الجميع وفقا لهذا التوجه.
عادوا مرة أخرى إلى غرفة المدير لاستكمال التحقيقات مع الجميع بعد أن أمر رئيس النيابة بالتحفظ على من كان موجودا وقت الحادث. 
استمرت التحقيقات مع جميع الموجودين في المصنع حتى لفت انتباه رئيس النيابة معلومة عابرة من إحدى زميلات شيرين: وحيد كان متعدد العلاقات، وكذلك حامد، وكلاهما كان يتنافس على جذب الفتيات ناحيته خاصة وأنهما غير متزوجين رغم كبر سنهما النسبي. وحيد ارتبط بشيرين مجبرا بعد أن تم ضبطهما متلبسين يقبلان بعضهما، لكن الأكيد أن شيرين كانت تعشق حامد.
بدأ التحقيق يأخذ منحى جديد للبحث عن علاقات الضحيتين، اكتشف المحققان أن المعلومات صحيحة وأن أغلب الفتيات كانت قد تعرضت مرة على الأقل لمحاولة التقرب منهما، لكن أيضا كانت المعلومات المفاجئة أن حامد لم يكن يستمر في علاقة أو يحولها إلى علاقة جنسية بعكس وحيد المعروف بالضغط على الفتيات ومحاولة تصعيد العلاقة إلى الجنس.
اتخذ التحقيق اتجاها آخر بعد جمع المعلومات الشخصية لكل الضحايا والبحث في نفس الوقت عن الشخص الرابع الذي كان حاضرا وقت الجريمة وربما شارك فيها.
حضرت حينها والدة شيرين في حالة انهيار كامل. هدأها المحقق وسألها عما تعرفه.
انفتحت في الحديث وصبت جام غضبها على وحيد:
الحقير، أغراها وأغواها وأضاع مستقبلها، كان المهندس حامد قد اتفق معها على الزواج وأخبرتني، لكن ذلك الذئب أغراها حتى حدثت الفضيحة وألزمها بخطبته.
نظر المحقق إلى رئيس النيابة وقد فاجأتهما المعلومة، الموضوع أكثر تعقيدا، والتنافس كان على أشده بينهما، علاقة ثلاثية غريبة.
خرجت الأم بعد أن قالت كل ما عندها. تحدث المحقق قائلا:
شيء ما حدث بين الثلاثة أدى إلى هذه النهاية العجيبة، أعتقد أن وحيد قد استبدل المياه الخاصة بحامد بمادة حارقة قاتلة.
رئيس النيابة: وربما كانت شيرين هي من أوصل المياه لحامد، ولهذا صرخت حين شاهدت تأثير المادة على حامد، وكان وحيد يراقب الموقف، إلا أن مشاعر الفتاة لم تتحمل فألقت بنفسها في المغسلة، رآها وحيد فألقى بنفسه خلفها لإنقاذها.
المحقق: نظرية ممكنة، غير أن فيها ثغرة رئيسية، من أوقف المغسلة وغير المياه من ساخن إلى بارد؟
رئيس النيابة: عندك حق، هل تعتقد أن طرفا غامضا كان موجودا؟
المحقق: ربما؟ وربما كان السيناريو أغرب مما نتخيل.
استكملوا التحقيقات مع الموجودين حتى وصل إلى إحدى الفتيات التي لم يبدو عليها أي اهتمام بالأمر.
بدأ المحقق بسؤالها مباشرة بعد أن عرف أن اسمها حنان:
لماذا لايبدو عليك التأثر بما حدث؟
أجابته: الفاجرة المنحرفة، أوقعتهما في حبائلها ولعبت بمشاعرهما حتى هزمتهما، استغلت جمالها الفاتن وكلماتها المعسولة في الضحك على عقولهما، كان هدفها منذ البداية المهندس حامد، منذ دخلت هنا وكان يعاملها كطفلة، حتى جعلته يقبلها للمرة الأولى، دخل على الخط وحيد الذي فهم إشاراتها على أنها حب فقبلها رغما عنها وشاهدهما الجميع.
رئيس النيابة: إذن شيرين كانت تحب حامد.
حنان: بل لا تحب سوى نفسها، أغدق عليها وحيد وطلب منها كثيرا ترك العمل، لكنها ام تستطع البعد عن حامد، ظلت تعذبه وتستغل حبه الجارف لها حتى....
المحقق: حتى ماذا، أكملي.
حنان: حتى شاهدتهما منذ يومين يتبادلان القبل في المغسلة.
رئيس النيابة: وماذا فعلتي؟
حنان: لحقت بي ورجتني ألا أخبر أحدا، ووعدتني ألا تفعل ذلك مرة أخرى. لكني متأكدة أنهما كرراها بالأمس، وربما اليوم أيضا، والحقيقة أنني قد أبلغت وحيد نهاية اليوم بالأمس، وقال لي أنه سينهي الموضوع للأبد، ظننت أنه سيتركها.
المحقق: إذن من المحتمل أن وحيد هو من قام بتغيير محتويات زجاجة حامد ليتخلص منه.
حنان: لقد رأيت وحيد اليوم مرتبكا، وهناك زجاجة في يده حاول إخفاءها مني لا أعرف محتواه.
أمر رئيس النيابة المحقق بقلب المصنع بحثا عن تلك الزجاجة. وجدوها مخبأة بعناية في غرفة وحيد، اتضح أنها نفس المادة الكيماوية التي قتلت حامد.
استمرت التحقيقات حتى دخول شاب صغير. عرف نفسه بهادي وهو في حالة قريبة من الإنهيار، صب جام غضبه على شيرين قائلا:
الملعونة، دمرت أطيب قلب وأعظم إنسان في الكون، المهندس حامد كان والدي الروحي، ساعدني وشجعني لأدخل الجامعة ، سمح لي بالتوفيق بين العمل والدراسة، دخلت عليه كالحرباء وتلونت حتى أوقعته في حبائله، استغلت حاجته العاطفية لدخوله على الأربعين وأوهمته أنه فتى أحلامها، وقع في براثنها، حتى جاء وحيد وحدثت الفضيحة التي أرغمته على خطبتها، انهار أستاذي، لأول مرة في حياتي أراه ضعيفا يبكي، الشيطانة لم تتركه في حاله، كان على وشك تقديم استقالته حين لفت حبائلها حوله مرة أخرى. لقد كان يعلم بما فعله وحيد بزجاجة المياه لأني رأيته يغير محتوياتها، أخبرته، لا أعلم ماالذي حدث ليشرب منها.
أصابت المعلومة المحقق ورئيس النيابة بالذهول، لقد كان يعرف إذن أن الزجاجة بها مادة غريبة وربما تكون قاتلة، لماذا إذن شرب منها؟ هل تم إرغامه على ذلك؟
خرج هادي والخيوط تتشابك وتزداد تعقيدا.
رئيس النيابة: ما رأيك؟
المحقق: من الصعب جدا ألا يكون هناك شاهد رؤية، المغسلة شبه مفتوحة إلا جانب بسيط.
رئيس النيابة: هناك غرفة مواجهه تماما للمغسلة.
نزلا معا سريعا لإجراء معاينة أخرى، سألا عمن يجلس في الغرفة، قال لهما المهندس جلال أنها غرفة وحيد وتجلس معه للمساعدة أم شيرين.
غموض آخر. طلبا لقاءها على الفور،واضح أنها كذبت في شهادتها الأولى، استكملا التحقيق في غرفة وحيد.
المحقق: لماذا تهربت من الإدلاء بأقوالك؟ وأين كنتي؟
كانت تنظر إلى الأرض ولم ترد. ضرب رئيس النيابة بعنف على المنضدة يطلب منها أن تجيب.
ارتعدت قليلا ثم تحدثت بصوت خافت:
ليتني ما أحضرتها هنا، ليتني قتلتها قبل أن أخرجها من المنزل، لقد جلبت لي العار. نعم يا سيدي، وحيد جاء اليوم مصمما على قتل حامد، وضع له مادة حارقة في زجاجته، ثم طلب مني أن أجلس معه لنراقب الموقف، لم يستمع لكلامي ونصائحي، كان حامد اليوم غريبا، يحوم حول شيرين طوال الوقت، حتى دخلت المغسلة، أسرع خلفهما وحيد وأنا معه، كل شيئ حدث في لحظة واحدة.
انفجرت في بكاء مرير
طلب منها المحقق بحزم أن تستكمل حديثها.
: وصلنا معا فوجدنا حامد يقبل شيرين، أصابنا الشلل المؤقت، ثم فوجئنا جميعا بوحيد يلقي بنفسه في المغسلة، أسرعت شيرين فألقت بنفسها خلفه لتنقذه، اختفيا في لحظة، أسرع حامد فأوقف المغسلة وحول المياه من الساخن إلى البارد، أسرع لينقذ شيرين، لم يستخرج سوى يد شيرين تمسك بيد وحيد، فوجئت بحامد يعود إلى الخلف وهو في حالة انهيار كامل ثم يشرب بنفسه من الزجاجة وكأنه من عالم آخر، شربها فصرخت من هول منظره، لكنه لم يكن يشعر، لم يبدي أي رد فعل.
انهارت تضرب وجهها وهي تصرخ:
لو أني أعرف أن كل هذا سيحدث ما كنت أحضرتها هنا من البداية، أنا السبب، أنا السبب.
أخذها بعض القريبون منها بعد أن أجهش الجميع بالبكاء.
نظر المحقق لرئيس النيابة قائلا:
في النهاية لا يوجد جاني سوى الحب، قتلتهم وقتلت نفسها.
رئيس النيابة: الوردة تحمي نفسها بالشوك، لكن أشواك الورد قد تصيب أقرب الكائنات لها. أغلق المحضر على ما تم.
إيهاب بديوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق