الاثنين، 28 مارس 2016

المصير - قصة قصيرة - للكاتب إدريس البيض

المصير - قصة قصيرة -
و يداه ترتعشان يشعل سيجارة أخرى، ينفث دخانها بعيدا بينما عيناه لا تثبتان على شيء. كان الاضطراب واضحا على ملامحه الشامية و هو يسرد مأساته.
- أبي قتل في الجبهة، منذ أن نفر مع بعض أهل البلدة منضمين إلى أحد الألوية لم نعد نعلم عنه شيئا، حتى جثته لم تصلنا أبدا. أفقت يوما على نحيب أمي، كنا على يقين أن يوما كهذا آت لا محالة، سمعت أحد المعزين يهمس لصاحبه بأن الإصابة كانت مباشرة تركته أشلاء لا رابط بينها غير لون الدم و رائحة البارود.
طأطأ رأسه و صمت قليلا قبل أن يتابع الحديث.
- الحرب تحتاج للرجال يا صديقي و أنا لا أزال صغيرا، أمي في ريعان شبابها و ظروف الحرب لا رحمة فيها، أتفهم الأمر، فلست أهلا لمهمة كهذه. لكن ما لا أتفهمه أن تتزوج من رجل غليظ الطبع كذاك الأجلف الذي لطالما كرهه أبي، قالت لي بالحرف " كل أهل البلدة يهابونه بني، و نحن معا في حاجة ماسة للأمان...".
يأخذ جرعة إضافية من دخان سيجارته وسط العتمة...
- لربما شعرت في حضنه بقليل من الأمان، لكن نصيبي منه لم يكن شيئا يذكر، على العكس صرت مرغما على النوم ليلا على إيقاع لقاءاتهما الحميمية، أمر ساءني كثيرا. عزمت على المغادرة، لم أترك الفرصة تفوتني، فبعد طول حصار دخلت بلدتنا أربع شاحنات تحمل مواد إغاثية، دفعت للسائق التركي كل ما ادخرته من نقود. حين جن الليل تسللت خفية من فراشي، ركبت المجهول صحبة عدد من الشباب و النساء و الأطفال... عند كل نقطة تفتيش كان علينا الدفع أكثر، بغض النظر عن الجهة المسيطرة عليها. ظللنا على تلك الحال حتى اقتربنا من الحدود، أوقفتنا إحدى الميليشيات، عرض عليهم سائق الحافلة مبلغا من المال فرفضوا. صعد أحدهم الشاحنة و تفرس في وجوهنا، أطال النظر إلى النساء، ثم سحب أجملهن من يدها و صاح بالسائق " نريد هاته " ، استعطفهم و بكى عند أقدامهم لكن بلا فائدة. اندفع أحد الشباب خلفه فتبعناه، حين لحقنا به عند الوادي وجدناه مضرجا في دمائه يلفظ أنفاسه الأخيرة، بينما اختفى المسلحون صحبة الفتاة المختطفة. عدنا إلى الشاحنة، لم يكن ثمة أحد بيننا يحسن السياقة، تركناها على الطريق و أتممنا المسير مشيا على الأقدام بما خف من متاع. لم نبتعد كثيرا، حين مرت طائرة عسكرية فوقنا مباشرة، و ألقت بحممها على شاحنتنا، رأيناها تنفجر بقوة مرعبة حتى انصهر معدنها و غابت ملامحها.
وصلنا الحدود مع مغرب الشمس و ...
قاطعته قائلا :
- أرى قاربا يدنو من الشاطئ، استعد يا صديقي.
- سنكمل الحديث هناك.
- لا أعتقد ذلك.
جلسنا القرفصاء جنبا إلى جنب، حظينا بموقع جيد وسط القارب، على الأقل لا نخشى هنا السقوط حال ميلانه. نظرت إليه فإذا هو شاحب اللون كأنما يغشاه الموت، سألته إن كان يحسن السباحة فرد بالإيجاب، كنا نتحدث همسا، فهنا يمنع الكلام.
مر الوقت بطيئا قبل أن تظهر لنا بعض الأضواء الخافتة البعيدة، ما من أصوات تعلو على صوت الأمواج و هي ترتطم بجانبي القارب. كدنا نقترب من الشاطئ حين لاحظنا تسربا للماء، كل من كانت معه سترة نجاة ارتداها إلا نحن الإثنين لم يكن معنا شيء. خفنا كثيرا، لم يكن لنا خيار آخر، قفزنا إلى المياه الباردة جدا وسط صراخ النساء و الأطفال، سبحت لبضع دقائق قبل أن ألتفت خلفي، كانت أغلب الأصوات قد خمدت إلا من بعض من لا يزالون متشبثين بالحياة في أقسى صورها، يستغيثون بعضهم و لا مغيث.
سررت كثيرا حين رأيت صديقي حيا يقاوم أمواج البحر.
- هل أنت متعب.
- كثيرا..
- استلق على ظهرك فوق الماء و خذ أنفاسا عميقة مثلي، أمامنا فرص ضئيلة للنجاة، لا أريد أن أموت قبل أن أعرف تتمة قصتك.
- سأفعل، لكن لم تقل لي لم أنت هنا ؟؟؟
- معاناتي لا تقاس إلى محنتك، حين سمعت منك أدركت أن لا شيء غير الطيش أوصلني إلى هنا. لا بد أن أبي الآن يدعو علي، فقد سرقت مدخراته كلها كي أدفع لصاحب المركب، حتى مهر أختي أخذته.
استعدنا بعضا من طاقتنا، فقررنا قطع المسافة الفاصلة بيننا و بين الشاطئ في وقت قياسي حتى لا تنهار قوانا...
مع طلوع الشمس، كنت أول الواصلين إلى الفردوس الموعود، شعرت بحزن شديد و أنا أرى جثة صديقي السوري تتقاذفها الأمواج عند الحاجز الصخري، بينما يجاهد المسعفان الأشقران في حشري داخل كيس بلاستيكي أسود مظلم.
..... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق