الأحد، 7 أغسطس 2016

جيران على الأرض وفي السماء للكاتب المُهنّد مُحي الدين حَسن

جيران على الأرض وفي السماء
مرَّ على التفجير الغادر الذي أودى بحياة أبا خِضرَ وزوجتِهِ مايُقارِب الشهرين
ومنذُ ذاكَ الوَقت عقدَ العزم آرتين أن يُشارِك خِضرَ في الأخذ بالثأر
وَحينَ جائت الموافقة على إنضمامهما لِصُفوفِ حُماةِ العِرضِ وَالديار
لم يَتوانَيا أو يُضيّعا أي لحظةٍ للإستعداد والمُضيّ قُدُماً
تَرَكَ صَديقَهُ مُنهَمِكاً في التحضيرِ للرَّحيل
ودَخَلَ لمنزِلهِ المُجاوِر ليستعدّ بِدورِهِ
وَ بعدَ أن حزَمَ أمتِعَتَهُ
وَضَعَ الحَقيبةَ على ظَهرِهِ
وَإلتَفَتَ إلى عَينيّ أُمّهِ الغائِرَتَينِ في كَهفٍ مُمطِر
فَقبّلَ جَبينَها
وإنحنى بينَ أقدامِها مُقبّلاً يَديها
وقالَ لها .. ..
إدعيلي يامو
إدعيلي ما إرجعلك غير عريس
هاد حلمي يامو
ينزل إسمي بسجل الخالدين
فرَفَعت رأسها نحوهُ والقطرةُ باتت سَيلاً على وَجنَتيها البائِسَتين
وضيّقت قبضَتها على أصابِعه المُنكَمِشَةِ فوقَ رُكبَتيها
وقالَت لهُ ..
روح يا أمي
تركتك بذمّة الله
يابيرجعلي ياك وبيكحّل عينيّ بأولادَك قبل ماموت
يابياخدك لعندو وبكحّل عينيّ فيك بعد ماموت
فوَقفَ على قدميهِ وتجاوَزَ غُرفَتينِ وَرُدهة
وحينَ وصلَ للشُرفة
إنخَفَضَ إلى أُذُنِ أبيه المُثقلِ باِلكبرياءِ
وهمسَ في أُذنيهِ قائِلاً ..
إبنك رايح يشرّف سمعتك
إبنك رايح يثبت للناس أنه أبو آرتين متلو متل أبو خضر
عندو رجال بيلبي الواجب ومابيهاب الموت
ثم أسهبَ قائلاً ..
بابا ياغالي أنا إتأخرت
خضر إبن جيرانا سبقني وواقف على باب البناية عم يودع أختو
بدي أطلب منك شغلة يابابا
بترجاك لاتعملي واسطة ولا تطلب من حدا يريحني أو يحطني بمكان مريح
لأن خضر متل مابتعرف ماعندو واسطة ويمكن نبعد عن بعض ويسرق مني الشهادة
فوَقفَ الوالِد على قدميه المُنصَهِرتين من شدّة الحزن
ووضعَ يديهِ على أكتافِ آرتين
ثم رفع اليمين وضرب بها كتف إبنه مرتين بقوة وقال ..
روح يا سبع الغاب يا قلب أبوك
الله يرضى عليك دنيا وآخرة
لم يجد آرتين من يغلق الباب خلفهُ
فأمُّهُ مازالت قابِعَةً في تلكَ الغُرفة المُظلِمة تتأمّل شَكلَ البَلاط وَتَقيسُ المَسافات
وتُحاوِلُ النّهوضَ لِتَتَمَكّن مِن طبع آخر صورة في مُخيّلتها
لإبتسامةٍ لطالما زيّنت وجهَ آرتين
ولكنها لاتقوى
وزوجها مازالَ واقفاً على الشُرفة
مُتَشبِّثاَ بالإطارِ الحديديّ الذي يلفّ المنزِل
وعينُهُ على أسفَلِ البِناء بإنتظارِ خُروجِ إبنِهِ لمُلاقاةِ مَصيره
أغلقَ آرتين البابَ خلفَهُ
وَ نزِلَ السلالِم بِرفقَة خِضر
وأومَئ بيدهِ من خلفِ الظهرِ لِعفراء أُخت خضر
مودّعاً عُمراً قضوهُ بينَ شُرفتين
وَ تارِكاً أبويهِ في عُهدَتِها
سَبعُ شُهورٍ ونِصفَ مضَت
كان فيها خِضرُ وَآرتين ينتَقِلان من معركة لمعركة
وَ يَتَنقّلا مِن جبهةٍ لِجبهة
ولم يفرّقهما إلا النوم
كانَ حينَ ينامُ أحدهُما
يسهَر على أمنهِ الآخر
وحينَ يستيقظان
يتقاسما الحياة
الأكل والشراب والحرّ والضِحك والخوف والبُكاء والذكريات
وفي كل ليلةٍ كانا يتبارزان
من منهما سيحظى بالشهادةِ وهو يَحمي ظهرَ الآخر
مَرَّتِ الأيّامُ وَ أَفُلَت الليالي حتى باتَتِ البِلادُ على أعتابِ نَصرٍ
خَطَّهُ أشباهُ خِضرَ وآرتين وَمَن في رَكبِهم من فُرسانِ البِلاد بِملاحِمَ بُطولية
ّوصلت أصدائُها مشارِفَ الفضاء
وما كانت إلا لحظاتٌ يُعلنُ فيها نصرُ الوطن
حتى باتَ جميعُ مَن في المكانِ يُطلِقُ العياراتِ النارية في الهواء
ويَرقُصُ ويغني فرحاً وإبتِهاجا .. بمن فيهم زميلا الحي والسلاح والمصير
وبما أن القدر لايستأذن ..
لم تشفع لهما بطولاتُهما وشجاعتهُما
فإذ بِِهما يدوسا على لُغمٍ غائِرٍ في التُّراب
مِن مُخلَّفاتِ العِصاباتِ التي دَحروها
ولوهلةٍ وقبل إنفجارِه
توَقّفَ الزمن
وبدت الدهشةُ تلفح وجهيهما الشاحبين
إنشلّ التفكير
وإنقطعت الأصوات
وجفّت العروق
وباتت الحناجرُ أضيقُ من خُرمِ إبرَةٍ على لُعابِ كُلٍّ منهما
كل واحدٍ منها يحاول إبعادَ الثاني والتفرّد باللغم
وبنفس الوقت يحاول الإستحواذ على حلم الشهادة تارة
وإسترجاع ذكرياتِ الجري والضحكِ والتشقلب بين الحُقول تارةً أخرى
وفي غمرةٍ من نشوةِ النصر في المعركة
شعرَ آرتين أنه لامَسَ التُراب المُقابِل لموقع التحصين
فَنظرَ بإتجاه خضر وهو بين غائب عن الوعي ومُدرك لما يدور حوله .. وكلَّ همِّهِ أن يتحسس من منهما سيفارق الحياة ومن منهما قد نجا
وإذ بِهِ يستَعيدُ وعيهُ على حقيقة أن خضراً قد تَشبَّثَ باللُّغم ورمى بِهِ بعيداً
ونظراتُهُ تكاد تثقب عيني آرتين وهو يقول ..
بخاطرك ياجاري
بخاطرك يارفيق الشقاوة والطفولة
بخاطرك ياصديق عمري الغالي
دير بالك على أبوك وأمك
وخبر عفراء أني من زمان بعرفها بتحبك
وياريت تدير بالك عليها ياصاحبي
عفراء أمانة برقبتك
وتناثرت أشلاء خضر في المكان
حتى أن بعضاً من آثاره إلتصقت بملابس آرتين
إلى أن إرتوت تلك الثياب من دمائه
بل إن بدلة آرتين المموهة
أضافت لجمالها لوناً تمويهياً جديداً قاتِماً
لم يعد يقوى آرتين على النطق
ولا على الحركة
ولا على التنفس
بقي ممدداً بجوارِ ذكرياته مع خضر
ورأسه بين أكوام التراب
وعيناه تغزو أعماق السماء
وصلَ خبرُ شهيدٍ إلى حيّ الأبطال
لم يعلم أحدٌ من منهُما بقيَ ومَن مِنهُما رَحلَ
لم يحزِر أحدُ المنزلينِ المُتَلاصِقين أي ولديهما سيحتضن فراش الآخر ويبكي عليه
وبقي الحالُ هكذا بضعة أيام
إلى أن حانَ وَقتُ الرُّجوع
وصلت سيارة التشييع إلى مشارف الحي
وسطَ إستقبال كل أطياف المدينة
ويدُ آرتين تقبضُ على العلَمِ الذي يلُفُّ صديقهُ
وعينُهُ تكادُ تَخترِق الصُندوق الخشبيّ الذي وضِعَ فيه
كلّ الأُناسِ وقفَت على جانِبيِّ الطَريق تُهلل وَتُحيي الأبطال
والنّسوةُ كانت تُطلِق الزغاريد وَ ترمي الأرز على المشيّعين
وفقط عفراء كانَت تنتظر على شُرفَةِ المَنزِل
لاتعلم إن كانت ستَستَقبِل أخيها مُمدّا
أو أنها ستُعانِق حَبيبَها أوّلَ وآخِرَ عِناق
وقفَتِ السيارةُ أمامَ البِناء
فُتِحَ الباب
ونزلَ مِنها عريضُ المنكبينِ أسمَر الوجنَتينِ وَ السّواعِد ذي المتر والثمانين
وأنزلَ القبعة عن رأسهِ ونظرَ للأعلى متأسِّفاً ومُنكَسِرَ العَينَين
فطبع بسمةً ودمعةً وإنهياراً على ملامِحِ العفراء
صعد السلالم
ثم نقر بأصابعه على باب الجيران
متناسياً أن له من ينتظر شمّ نسيمه
وَمؤجِّلاً لِعِناقٍ لطالما حَلُمَ بأن يستَرِدَّ بهِ بعضاً من ذاتِهِ التي سُفِكَت بينَ أحضان خِضر
ومتذكراً توصياتِهِ بأختِه
وحين فتحت عفراء الباب
وضعت أناملها بيديه
وتبسّمت قليلاً
محاولةً إخفاء القَهرِ في أحداقِها
وقالت له ..
العمر إلك آرتين
فأجابها ممتعضاً ..
أنا اللي لازم عزيكي وآخد بخاطرك وإعتذر منك لأن ماقدرت أوفي بوعدي وأحمي خضر
فصمتت قليلاً وأخذت نفساً عميقاً وَبعدَ أن حبَستهُ بضعة ثواني
تنهّدت مايُشبِه شهقةَ من يلفظ أنفاسَهُ وفي قلبِهِ نَزَق
ثمّ أومأت برأسها بإتجاه باب منزلهِ وقالت ..
ليش لتعتذر
أنا كمان ماقدرت أوفي بوعدي وصون الأمانة
أبوك وأمك ماقدرو يستنوك كتير
بيسلمو عليك وبيقلولك نحنا سابقينك
فجأة تضائلت الدنيا في عيني آرتين
وخرّت قواه فهبط بثقله على ركبتيه
وأشاحَ بنظرهِ من وجهِ عفراءَ إلى بابِ منزله
وضرب بقبضته على الباب منادياً ..
وينك ياميمتي .. وين يابيي
أنا رجعتلكن .. الله ماقبل مني .. ومارزقني الشهادة
خضر سرقها مني .. ولك خضر سرقها مني
وينك يابيي .. أنا رجعت لأرفع راسك
ليش كسرتلي ضهري
مين بدو يشوف حالو فيني بعدك يا ميمتي وبعدك يابيي
ومين بدو يحمل أبني وأبن عفراء
ولك آاااااااااخ قديشك محظوظ ياخضر يارفيقي
رح تشوف بيي وأمي
وفي هذه الأثناء
صَعَد الضابط المسؤول عن تسليم جثة الشهيد لذويه
ووضع يديه على كتفي آرتين
مطالباً إياه بالتماسُك والبدء بمراسم وداع شقيق الروح
فإستعاد آرتين بعضاً من قواه وَوقف على قدميه
وأمسك بيدي عفراء ونزل إلى السيارة التي تقل صديقه
فوقف عند الباب ووضع يديه على النعش
محاولاً السيرَ بهِ إلى مثواه الأخير
فَهَمَّ شبابُ الحيّ وَشيبهِ لمساعدتِه
وحين وصلوا به إلى المرتجى
نزلَ بصديقِهِ إلى اللحد
ودنى بأنفاسه من بين القواطع الخشبية المتلاصقة
فهمس بإذنه باكياً ..
طلبت مني دير بالي عأختك
وحطيتها أمانة برقبتي
بترجاك يارفيقي تدير بالك ع بيي وأمي
لبين ما لاقي طريقة أجي فيها لعندكن
ثم نهَضَ وبدأَ برمي التُراب على وجهِ صديقهِ ..
وكأنهُ يَقتَطِع جزءاً من لبَناتِ قلبهِ ويرمي بها إلى المجهول ..
وبقي مُحدّقاً بِمراحِلِ الفُراق .. حتى وارى خِضرَ الثرى
المُهنّد مُحي الدين حَسن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق