الشيخان
منذ زمن بعيد لم يلتقِ الشيخان؛ حتى جاء هذا اليوم،الذي هو نهاية أخر القرن العشرين،. في هذا العام، وتحديداً في أخر أيام رمضان 1421\ للهجرة. الموافق للعام 2000\ للميلاد، التقيا معا، الفطر المبارك، والميلاد المجيد.
في ساحة الألعاب، حيث المفروض أن يلتقي كل الأطفال، ليبتهجوا بالعيد ويختلط كل من أحمد، ومحمود، ومحمد، مع كل جرجس, وجورج، وحنا. أطفال صغار، لا علاقة لهم بما يحمله لهم نهاية العام، أو حتى نهاية القرن، لا علاقة لهم بالأقصى، أو القيامة، ولا علاقة لهم بالقدس، أو بيت لحم؛ فكل ما يعرفه، ويريده، ويدركه الطفل، أن العيد جاء، وجاء معه لباس العيد، وقطع الحلوى، وحبات الحلوى الملونة، وهذا جل ما يحبه الطفل في العيد، بعد اللعب.
جاء العيد؛ سيعود محمود ليأكل أثناء النهار، وجورج فرح بأضواء شجرة الميلاد، وكلاهما ينتظران، ويترقبان ذلك الحلم الذي لن يتحقق ( بابا نويل ) ، والذي يأتي عبر المداخن السوداء، ويملأ الجراب بالهدايا، ليستيقظ الأطفال في الصباح فيجدوا لفائف الهدايا بألوانها الزاهية البديعة ــ ما أقصانا نحن الكبار عندما لا نجعل هذا ( البابا نويل ) يأتي أثناء نومهم ــ
وصل الشيخان إلى مشارف مدينة العيد أحدهما داخل عباءته، والأخر تحت قلنسوته؛ صعدا التل الصغير؛ أطلا على المدينة فوجداها قد اتشحت بالسواد، وفضاءها مغبراً، وغيومها جافة، وأُطفأت أنوار نجومها، وأُخرِس فرح أطفالها؛ استغربا؛ ثم احتسبا الله، وتحولا لهذا الحال، ومن أمر هذه المدينة ــ مدينة العيد ــ ثم بكيا على حال أطفالها.
وجدا أبواب المدينة مغلقة، وسورها عالي، وأهلها مسجونين داخلها، فلا دخان يصعد من مداخن صانعي الحلويات، وماكينات ألعاب العيد توقفت، و أبو أحمد غارقُُ في جمع، وطرح الأرقام لشراء الحلوى، وأبو جرجس شارد كيف يمكنه جمع تكاليف شجرة الميلاد، وزينتها، وكلاهما بدلا القمح بالصبر ليخبزا خبز اليوم، فداهمهما العيد، ودخل عليهما، وهما ما يزالان يحسبان، ويجمعان، ويطرحان، كيف؟ ومن أين سيؤمنان مصاريف العيد؟ فحال العمل، والسوق غارق في غيبوبة التفجير، والتشويه، والقتل.
أخرجا منظارهما، وأخذا ينظران ليوم الغد، صباح العيد؛ فتبين لهما أن الشمس لن تشرق، وليس هناك يوم دافئ ملئ بالأمل على هذه المدينة؛ أخذا يجولان بالمنظارين على حال أهل هذه المدينة وحال أطفالها، ثم نظرا إلى باقي القُرى، والمدن فوجدا أن سامي في تلك القرية لعب بألعاب العيد، وهيثم يرتدي ثياب العيد الجديدة، وكلاهما فرح، سعيد، مبتهج؛ بينما لا عيد لأولاد هذه المدينة يستقبلونه غداً؛ نظرا أبعد فوجدا مدينة كلها أحمد، ومحمد ومحمود.
قال صاحب القلنسوة :
ـ انظر هؤلاء بنو ملتك يلعبون، يمرحون، صبية، بنات، والرجال بعدما أنهوا صلاة العيد، ذاهبون كل إلى عيده، والنسوة يهيئن أطيب الطعام للعيد، الشيوخ جالسون يسترجعون ذكرياتهم القديمة مع الأعياد، والعجائز من النسوة جلسن يراقبن حفيداتهن، وهن يرتدين لباس العيد، ويجدلن الضفائر من شعورهن.
رد عليه صاحب العباءة :
ـ نعم لقد نسي هؤلاء المعيدون أن العيد ليس لهم، وحدهم، وأن هناك أطفالا في هذا العالم لهم العيد، لهم الحلوى، ولهم الفرح.
ثم قال متابعاً بعدما غير وجهة المنظار:
ـ انظر إلى كنائسكم في هذه البلد خاصتكم، انظر إلى تلك الناحية منها، إلى الركن الذي نصبوا عليه شجرة الميلاد الكبيرة.
أجاب صاحب القلنسوة :
ـ أراها، أنهم يعيدون، وأرى الآن خليلاً، ذلك الولد في مدينة الحزن، كيف ينظر إلى نوافذ المنازل، يتألم بحسرةٍ ناظراً لشجرة الميلاد المنصوبة قرب النافذة، في بيوت بني ديني.
قال صاحب العباءة :
ـ لنستمع عما يتحدثوا؟ ..
فرد عليه صاحبه :
ـ نعم نحن عيدان، نحن الفرح، وكلانا نريد أن نعرف ما الذي سيمنع دخولنا لهذه المدينة البائسة، من أجل هذا قد يغفر الله لنا استراق السمع هذا، ثم ضحك وقال: لقد استرقنا النظر من قبل يا صاحبي.
ضحك صاحبه وقال :
ـ لقد تورطنا في الخطيئة دون أن ندري بعد رؤية هؤلاء الأطفال في مدينة الحزن هذه، فلنتابع ارتكاب الخطايا، ولعل الله الذي يعلم بالنوايا سيغفر لنا يوم المشهد العظيم.
ضبط كلاهما شارة التردد، وأخذا يسمعان ما لم يفهماه، وما لم يُنزل الله به من سلطان؛ قربا المنظار أكثر فرأيا، وردة بيضاء فوق خنجر غدر دامي، ورصاصة طائشة، أو غير طائشة مبللة بدمعة يتيم، ونحيب ثكلى، وذهول أرملة لمّا تعرف بعد أن زوجها قد صار شاهدة قبرٍ، وبسمة رضا على وجه تجار الموت.
جاء في المشهد، قذيفة مدفع تقص حبل سره الحريري التف على بطن أول منتج جديد خرج للحياة من ثمار زواج حديث العهد لم يمض عليه العام بعد؛ وشاهدا حساماً بتاراً بمقدمة طائرة تهدر بصوتها، تبصق الموت على كل قصير أجلٍ، من شيخ، امرأة عجوز، رجل، امرأة ، ولد، بنت، طفل، طفلة، رضيع، ورضيعة، لتفتح نافذة الموت بصدرها بقذيفة نافذة من ظهرها، فتحولها إلى ملاك ضل طريقه من مصنع الإله في الجنة، فاستُدعيّ على عجل ليعود إلى مهمته الملائكية كيداً بمن فتح نافذة الموت تلك.
وجِل صاحب القلنسوة مما رأى؛ أسرع واختبأ داخل عباءة صاحبه الذي شاهد هذا الأخير ما لم يشاهده الأول؛ رأى شجرة الميلاد، وقد يبست عروقها، وحملت أوزاناً لا تطيق حملها، وتوقف الثلج، وحُبس المطر، ونُصب تحت كل شجرة عصيا غلاظاً، لتسند غصون الأشجار الرقيقة، وقد جلس تحت تلك الأشجار، جرجس، أحمد، خديجة، جو رجيت، ومغارة فيها ألف طفل يبكي، وكهف فيه ألف طفلة هربت مما لم تفهمه عن حال هؤلاء القوم، وأم تضحك مع جارتها، وأباً مشغولاً بجرد المستودع، وعماً يحسب كيف سيُقسم الإرث مع الخال، وجاراً علق الصليب فوق بابه، وجاره بالجنب يعلق الهلال. كان مشهداً مبهجاً للشيخين، فقرعا الباب كل على صاحبه، وأشرق وجه المضيفان، وسُر الصاحبان، فنظرا لبعضهما بغبطة، لكن المُحيى تبدل لما عبس الجاران، وبان على الوجوه البيان، فاكفهر الشيخان، وتأبطا الذراعين، وعادا خلف المنظارين.
عادا يجولان بالنظر؛ خلف الشارع الكبير، زقاقاً صغيراً جلس على حافة رصيفه الياس، ومحمود؛ طفلان حزينان يدمعان، الياس ينظر إلى نافذة تطل منها شجرة الميلاد، ومحمود ينظر إلى قطعة الحلوى بيد رضوان، وحذاء أحدهما مهريٌ بالي، وبنطال الأخر ُرقع من قدام. أما محمود فقد سند رأسه بيده يتنهد، والياس يتحول برأسه بصمت ، وكلاهما كان غارقاً بدمعة الأحزان يتساءلان: لماذا هذان الطفلان يلعبان؟ يأكلان؟ يلبسان؟ وكلانا محرومان؟.
جورج، وعبد القادر، من جيبهما المائة، والألف، والخمسين يُخرجان، فيَدْسُ الياس يده في جيب محمود، تخرج فارغة من العملتين، ينظر أحدهما للأخر بحسرة، فتسخو العيون بدمعتين حزينتين؛ يسحب محمود من جيب الياس منديلا أبيضاً يقسمه قسمين، وفيه الدمعتان يخبئان.
يسقط المنظاران عن عيون الشيخين، والى بعضهما، ينظران؛ باكيين، وللسماء يرفعان البصر يترجيان.
يُرفرف ملاك، ليحدثهما الرب الإله بالوحي كعهده مع الأنام، سائلاً:
ـ لمَ إليَّ تنظران؟..
يقول أحدهما :
ـ يا رب السماء، والأرض.. أنت من سميت نفسك بالعادل..!!
فيغضب الوحي، ويرتعد صوت الحق قائلا:
ـ هل للعباد، أنا ظالم تدعوان ؟؟!!
فيخرا راكعين خائفين قائلين:
ـ حاشى أن تكون ظالما للعباد!..
فيجيبهما :
ـ إن من خلقي من ظلم نفسه، فضاعت الرحمة بينهم، وما أنا بظالم للعباد، فما الذي إليه تدعوان؟ .
يقول صاحب العباءة :
ـ ربي أنت صاحب الأسماء الحسنى.. أنت الكريم الجواد
يتابع صاحب القلنسوة القول:
ـ انظر ألهي لهذين الطفلين.
فيوحي الإله الرب لهما ثانيةً: إن كانا يظنان أنه لا يراهما فلا يفعلان..
لكنهما، العطف على الطفلين يترجيان..
بعطفٍ؛ الإله يوحى لهما :
ـ أنهما أجرا وإحسانا سيُجزيان ..
فيتضرع صاحب القلنسوة للرب الإله ويسأله:
ـ عن حال ذلك الأب، وتلك الأم، وأولئك الجيران.
فيوحي الإله :
ـ إنه ظلم العبد لنفسه، وهذا ما أخبرتهم عنه في كل كتاب مني
يعود الشيخان للرجاء، والتوسل لله الأوحد، ومنه الرحمة، والغفران يطلبان..
فيقول بالإيحاء :
ـ أنه يغفر لمن يشاء ساعة يشاء ..
لكنهما يُصران؛ يلحان؛ يتوسلان، فيقول الوحي لهما:
ـ أنه عليهما حزم أمتعتهما، وإنهاء مهمتهما، وإليه يعودان، وأنهما سينفذان ما يُؤمران؛ فيخران راكعين وبذات الرجاء، والتوسل له، يتمنيان أن يحقق حلماً للأطفال أسمه العيد قبل أن يفارقا، وهما لم يلتقيا معاً منذ زمن طويل، ولن يعودا للقاء إلا بعد حين من الزمن، حتى يشاء.
يرضى الرحيم الكريم الجواد عنهما، ويأمر بتحقيق الحلم، فيُنفذ بعضاً من جنده ما أمر الإله أن يكون.
تتوقف الأرض عن الدوران، ثم تنبسط كالكف ، ترعد السماء وتبرق، وتصر صر الريح، تسجد الجبال، وتركع البحار، ويرتفع صوت الحمد والشكر لله من أوراق الشجر، ومما دب على الأرض من خلق، وخليقة أحياء وأموات، وتسبح لله كل ذرة رمل في الصحاري، ويصطف كل جند الله ينظرون لبدائع الله مع الشيخين.
تعود الشمس الغائبة عن مدينة الأحزان راغبةً، خائفةً، خاضعةً طائعةً؛ تنجلي السحب السوداء؛ تأتي السحب الماطرة؛ تتشابك قطرات المطر مع أصابع أشعة الشمس الصفراء؛ تغمر الثلوج أغصان أشجار الميلاد، فتلمع زينتها من نور القمر الذي كلف بهذا؛ تَعجُن الأمطار عجين حلوى العيد، ثم تطبخها الشمس؛ تيبس كل الناس من رجال، ونساء، وأطفال بأمرٍ من الله.
إلا أحمد، والياس وقد جف منديلهما الذي اقتسماه، فيضحك الطفلان، ويعرفان أن الله جعل العيد لهما وحدهما.
لكن براءة الأطفال ترجت متوسلة الإله الخالق أن يصفح عن باقي الأطفال، ولأن الله جواد كريم رحمان، رحيم، ولأنه يعلم أن لا ذنب للأطفال مما ورثوه من الآباء، والأجداد، يغفر الله للأطفال، فيتحركوا، وتعلو أصواتهم في كل مكان، وصار هرجاً، ومرجاً في العيد يملأ الساحات، وصدى صوت الفرح يضرب الجبال ليرتد، ويسقط في الوديان. فتفيق كل الطيور، وتحلق، وبأمر الله برفرفة أجنحتهم، كل الأزهار الذابلة تنتعش، ويعود عبقها ينتشر. ثم يأتي جورج لأحمدِ ويعطيه إحدى فردتي الحذاء، ومحمد يهدي الياس نصف القميص، وخديجة تلف لفحتها على رقبة
جو رجيت، ثم يقسمون قطعة الحلوى بينهم، ويفرغون ما في جيوبهم من مئات، وألوف، وقروشِ؛ يزرعونها في تربة الله قائلين :
ـ يا ألهنا، أنت الزارع، ولسنا نحن الزارعين..
فتنبت شجرة الميلاد في التو، والحال من آيات الله أموالاً لا تحويها مصارف، وذهبا وفضة لا يصوغها صائغ، وكلها صكت بوجوه أطفال يمرحون، يلعبون، ولبس كل طفل ثياب العيد ويسقى الله شجرة الحلوى بسحابةٍ ماطرة، فتطرح كل أنواع الحلويات، وتبقى شجرة الفاكهة الإلهية تحمل على كل غصن من غصونها فاكهة من كل الأنواع مما يحب الأطفال، ونهر العسل من الجنة رفد لهم، ومنه أخذوا يشربون، وكل طير في السماء يصيح هل لي بلحمي لطفلِ من الأحباب.
يرفع الأطفال رؤوسهم للسماء يحمدون، يشكرون، فيرون نور الله يستقبلهم، والملائكة لهم يلوحون معيدين، والرسل، والأنبياء لهم يبتسمون ضاحكين.
لماذا يا بشر لا نقدم نحن للأطفال حقهم قبل أن نتصلب ؟؟.
لماذا لا نتذكر أنهم وحدهم من يتمسك بعرش الرب ؟؟..
لماذا ننسى أنهم أحباب الله؟؟.
منذ زمن بعيد لم يلتقِ الشيخان؛ حتى جاء هذا اليوم،الذي هو نهاية أخر القرن العشرين،. في هذا العام، وتحديداً في أخر أيام رمضان 1421\ للهجرة. الموافق للعام 2000\ للميلاد، التقيا معا، الفطر المبارك، والميلاد المجيد.
في ساحة الألعاب، حيث المفروض أن يلتقي كل الأطفال، ليبتهجوا بالعيد ويختلط كل من أحمد، ومحمود، ومحمد، مع كل جرجس, وجورج، وحنا. أطفال صغار، لا علاقة لهم بما يحمله لهم نهاية العام، أو حتى نهاية القرن، لا علاقة لهم بالأقصى، أو القيامة، ولا علاقة لهم بالقدس، أو بيت لحم؛ فكل ما يعرفه، ويريده، ويدركه الطفل، أن العيد جاء، وجاء معه لباس العيد، وقطع الحلوى، وحبات الحلوى الملونة، وهذا جل ما يحبه الطفل في العيد، بعد اللعب.
جاء العيد؛ سيعود محمود ليأكل أثناء النهار، وجورج فرح بأضواء شجرة الميلاد، وكلاهما ينتظران، ويترقبان ذلك الحلم الذي لن يتحقق ( بابا نويل ) ، والذي يأتي عبر المداخن السوداء، ويملأ الجراب بالهدايا، ليستيقظ الأطفال في الصباح فيجدوا لفائف الهدايا بألوانها الزاهية البديعة ــ ما أقصانا نحن الكبار عندما لا نجعل هذا ( البابا نويل ) يأتي أثناء نومهم ــ
وصل الشيخان إلى مشارف مدينة العيد أحدهما داخل عباءته، والأخر تحت قلنسوته؛ صعدا التل الصغير؛ أطلا على المدينة فوجداها قد اتشحت بالسواد، وفضاءها مغبراً، وغيومها جافة، وأُطفأت أنوار نجومها، وأُخرِس فرح أطفالها؛ استغربا؛ ثم احتسبا الله، وتحولا لهذا الحال، ومن أمر هذه المدينة ــ مدينة العيد ــ ثم بكيا على حال أطفالها.
وجدا أبواب المدينة مغلقة، وسورها عالي، وأهلها مسجونين داخلها، فلا دخان يصعد من مداخن صانعي الحلويات، وماكينات ألعاب العيد توقفت، و أبو أحمد غارقُُ في جمع، وطرح الأرقام لشراء الحلوى، وأبو جرجس شارد كيف يمكنه جمع تكاليف شجرة الميلاد، وزينتها، وكلاهما بدلا القمح بالصبر ليخبزا خبز اليوم، فداهمهما العيد، ودخل عليهما، وهما ما يزالان يحسبان، ويجمعان، ويطرحان، كيف؟ ومن أين سيؤمنان مصاريف العيد؟ فحال العمل، والسوق غارق في غيبوبة التفجير، والتشويه، والقتل.
أخرجا منظارهما، وأخذا ينظران ليوم الغد، صباح العيد؛ فتبين لهما أن الشمس لن تشرق، وليس هناك يوم دافئ ملئ بالأمل على هذه المدينة؛ أخذا يجولان بالمنظارين على حال أهل هذه المدينة وحال أطفالها، ثم نظرا إلى باقي القُرى، والمدن فوجدا أن سامي في تلك القرية لعب بألعاب العيد، وهيثم يرتدي ثياب العيد الجديدة، وكلاهما فرح، سعيد، مبتهج؛ بينما لا عيد لأولاد هذه المدينة يستقبلونه غداً؛ نظرا أبعد فوجدا مدينة كلها أحمد، ومحمد ومحمود.
قال صاحب القلنسوة :
ـ انظر هؤلاء بنو ملتك يلعبون، يمرحون، صبية، بنات، والرجال بعدما أنهوا صلاة العيد، ذاهبون كل إلى عيده، والنسوة يهيئن أطيب الطعام للعيد، الشيوخ جالسون يسترجعون ذكرياتهم القديمة مع الأعياد، والعجائز من النسوة جلسن يراقبن حفيداتهن، وهن يرتدين لباس العيد، ويجدلن الضفائر من شعورهن.
رد عليه صاحب العباءة :
ـ نعم لقد نسي هؤلاء المعيدون أن العيد ليس لهم، وحدهم، وأن هناك أطفالا في هذا العالم لهم العيد، لهم الحلوى، ولهم الفرح.
ثم قال متابعاً بعدما غير وجهة المنظار:
ـ انظر إلى كنائسكم في هذه البلد خاصتكم، انظر إلى تلك الناحية منها، إلى الركن الذي نصبوا عليه شجرة الميلاد الكبيرة.
أجاب صاحب القلنسوة :
ـ أراها، أنهم يعيدون، وأرى الآن خليلاً، ذلك الولد في مدينة الحزن، كيف ينظر إلى نوافذ المنازل، يتألم بحسرةٍ ناظراً لشجرة الميلاد المنصوبة قرب النافذة، في بيوت بني ديني.
قال صاحب العباءة :
ـ لنستمع عما يتحدثوا؟ ..
فرد عليه صاحبه :
ـ نعم نحن عيدان، نحن الفرح، وكلانا نريد أن نعرف ما الذي سيمنع دخولنا لهذه المدينة البائسة، من أجل هذا قد يغفر الله لنا استراق السمع هذا، ثم ضحك وقال: لقد استرقنا النظر من قبل يا صاحبي.
ضحك صاحبه وقال :
ـ لقد تورطنا في الخطيئة دون أن ندري بعد رؤية هؤلاء الأطفال في مدينة الحزن هذه، فلنتابع ارتكاب الخطايا، ولعل الله الذي يعلم بالنوايا سيغفر لنا يوم المشهد العظيم.
ضبط كلاهما شارة التردد، وأخذا يسمعان ما لم يفهماه، وما لم يُنزل الله به من سلطان؛ قربا المنظار أكثر فرأيا، وردة بيضاء فوق خنجر غدر دامي، ورصاصة طائشة، أو غير طائشة مبللة بدمعة يتيم، ونحيب ثكلى، وذهول أرملة لمّا تعرف بعد أن زوجها قد صار شاهدة قبرٍ، وبسمة رضا على وجه تجار الموت.
جاء في المشهد، قذيفة مدفع تقص حبل سره الحريري التف على بطن أول منتج جديد خرج للحياة من ثمار زواج حديث العهد لم يمض عليه العام بعد؛ وشاهدا حساماً بتاراً بمقدمة طائرة تهدر بصوتها، تبصق الموت على كل قصير أجلٍ، من شيخ، امرأة عجوز، رجل، امرأة ، ولد، بنت، طفل، طفلة، رضيع، ورضيعة، لتفتح نافذة الموت بصدرها بقذيفة نافذة من ظهرها، فتحولها إلى ملاك ضل طريقه من مصنع الإله في الجنة، فاستُدعيّ على عجل ليعود إلى مهمته الملائكية كيداً بمن فتح نافذة الموت تلك.
وجِل صاحب القلنسوة مما رأى؛ أسرع واختبأ داخل عباءة صاحبه الذي شاهد هذا الأخير ما لم يشاهده الأول؛ رأى شجرة الميلاد، وقد يبست عروقها، وحملت أوزاناً لا تطيق حملها، وتوقف الثلج، وحُبس المطر، ونُصب تحت كل شجرة عصيا غلاظاً، لتسند غصون الأشجار الرقيقة، وقد جلس تحت تلك الأشجار، جرجس، أحمد، خديجة، جو رجيت، ومغارة فيها ألف طفل يبكي، وكهف فيه ألف طفلة هربت مما لم تفهمه عن حال هؤلاء القوم، وأم تضحك مع جارتها، وأباً مشغولاً بجرد المستودع، وعماً يحسب كيف سيُقسم الإرث مع الخال، وجاراً علق الصليب فوق بابه، وجاره بالجنب يعلق الهلال. كان مشهداً مبهجاً للشيخين، فقرعا الباب كل على صاحبه، وأشرق وجه المضيفان، وسُر الصاحبان، فنظرا لبعضهما بغبطة، لكن المُحيى تبدل لما عبس الجاران، وبان على الوجوه البيان، فاكفهر الشيخان، وتأبطا الذراعين، وعادا خلف المنظارين.
عادا يجولان بالنظر؛ خلف الشارع الكبير، زقاقاً صغيراً جلس على حافة رصيفه الياس، ومحمود؛ طفلان حزينان يدمعان، الياس ينظر إلى نافذة تطل منها شجرة الميلاد، ومحمود ينظر إلى قطعة الحلوى بيد رضوان، وحذاء أحدهما مهريٌ بالي، وبنطال الأخر ُرقع من قدام. أما محمود فقد سند رأسه بيده يتنهد، والياس يتحول برأسه بصمت ، وكلاهما كان غارقاً بدمعة الأحزان يتساءلان: لماذا هذان الطفلان يلعبان؟ يأكلان؟ يلبسان؟ وكلانا محرومان؟.
جورج، وعبد القادر، من جيبهما المائة، والألف، والخمسين يُخرجان، فيَدْسُ الياس يده في جيب محمود، تخرج فارغة من العملتين، ينظر أحدهما للأخر بحسرة، فتسخو العيون بدمعتين حزينتين؛ يسحب محمود من جيب الياس منديلا أبيضاً يقسمه قسمين، وفيه الدمعتان يخبئان.
يسقط المنظاران عن عيون الشيخين، والى بعضهما، ينظران؛ باكيين، وللسماء يرفعان البصر يترجيان.
يُرفرف ملاك، ليحدثهما الرب الإله بالوحي كعهده مع الأنام، سائلاً:
ـ لمَ إليَّ تنظران؟..
يقول أحدهما :
ـ يا رب السماء، والأرض.. أنت من سميت نفسك بالعادل..!!
فيغضب الوحي، ويرتعد صوت الحق قائلا:
ـ هل للعباد، أنا ظالم تدعوان ؟؟!!
فيخرا راكعين خائفين قائلين:
ـ حاشى أن تكون ظالما للعباد!..
فيجيبهما :
ـ إن من خلقي من ظلم نفسه، فضاعت الرحمة بينهم، وما أنا بظالم للعباد، فما الذي إليه تدعوان؟ .
يقول صاحب العباءة :
ـ ربي أنت صاحب الأسماء الحسنى.. أنت الكريم الجواد
يتابع صاحب القلنسوة القول:
ـ انظر ألهي لهذين الطفلين.
فيوحي الإله الرب لهما ثانيةً: إن كانا يظنان أنه لا يراهما فلا يفعلان..
لكنهما، العطف على الطفلين يترجيان..
بعطفٍ؛ الإله يوحى لهما :
ـ أنهما أجرا وإحسانا سيُجزيان ..
فيتضرع صاحب القلنسوة للرب الإله ويسأله:
ـ عن حال ذلك الأب، وتلك الأم، وأولئك الجيران.
فيوحي الإله :
ـ إنه ظلم العبد لنفسه، وهذا ما أخبرتهم عنه في كل كتاب مني
يعود الشيخان للرجاء، والتوسل لله الأوحد، ومنه الرحمة، والغفران يطلبان..
فيقول بالإيحاء :
ـ أنه يغفر لمن يشاء ساعة يشاء ..
لكنهما يُصران؛ يلحان؛ يتوسلان، فيقول الوحي لهما:
ـ أنه عليهما حزم أمتعتهما، وإنهاء مهمتهما، وإليه يعودان، وأنهما سينفذان ما يُؤمران؛ فيخران راكعين وبذات الرجاء، والتوسل له، يتمنيان أن يحقق حلماً للأطفال أسمه العيد قبل أن يفارقا، وهما لم يلتقيا معاً منذ زمن طويل، ولن يعودا للقاء إلا بعد حين من الزمن، حتى يشاء.
يرضى الرحيم الكريم الجواد عنهما، ويأمر بتحقيق الحلم، فيُنفذ بعضاً من جنده ما أمر الإله أن يكون.
تتوقف الأرض عن الدوران، ثم تنبسط كالكف ، ترعد السماء وتبرق، وتصر صر الريح، تسجد الجبال، وتركع البحار، ويرتفع صوت الحمد والشكر لله من أوراق الشجر، ومما دب على الأرض من خلق، وخليقة أحياء وأموات، وتسبح لله كل ذرة رمل في الصحاري، ويصطف كل جند الله ينظرون لبدائع الله مع الشيخين.
تعود الشمس الغائبة عن مدينة الأحزان راغبةً، خائفةً، خاضعةً طائعةً؛ تنجلي السحب السوداء؛ تأتي السحب الماطرة؛ تتشابك قطرات المطر مع أصابع أشعة الشمس الصفراء؛ تغمر الثلوج أغصان أشجار الميلاد، فتلمع زينتها من نور القمر الذي كلف بهذا؛ تَعجُن الأمطار عجين حلوى العيد، ثم تطبخها الشمس؛ تيبس كل الناس من رجال، ونساء، وأطفال بأمرٍ من الله.
إلا أحمد، والياس وقد جف منديلهما الذي اقتسماه، فيضحك الطفلان، ويعرفان أن الله جعل العيد لهما وحدهما.
لكن براءة الأطفال ترجت متوسلة الإله الخالق أن يصفح عن باقي الأطفال، ولأن الله جواد كريم رحمان، رحيم، ولأنه يعلم أن لا ذنب للأطفال مما ورثوه من الآباء، والأجداد، يغفر الله للأطفال، فيتحركوا، وتعلو أصواتهم في كل مكان، وصار هرجاً، ومرجاً في العيد يملأ الساحات، وصدى صوت الفرح يضرب الجبال ليرتد، ويسقط في الوديان. فتفيق كل الطيور، وتحلق، وبأمر الله برفرفة أجنحتهم، كل الأزهار الذابلة تنتعش، ويعود عبقها ينتشر. ثم يأتي جورج لأحمدِ ويعطيه إحدى فردتي الحذاء، ومحمد يهدي الياس نصف القميص، وخديجة تلف لفحتها على رقبة
جو رجيت، ثم يقسمون قطعة الحلوى بينهم، ويفرغون ما في جيوبهم من مئات، وألوف، وقروشِ؛ يزرعونها في تربة الله قائلين :
ـ يا ألهنا، أنت الزارع، ولسنا نحن الزارعين..
فتنبت شجرة الميلاد في التو، والحال من آيات الله أموالاً لا تحويها مصارف، وذهبا وفضة لا يصوغها صائغ، وكلها صكت بوجوه أطفال يمرحون، يلعبون، ولبس كل طفل ثياب العيد ويسقى الله شجرة الحلوى بسحابةٍ ماطرة، فتطرح كل أنواع الحلويات، وتبقى شجرة الفاكهة الإلهية تحمل على كل غصن من غصونها فاكهة من كل الأنواع مما يحب الأطفال، ونهر العسل من الجنة رفد لهم، ومنه أخذوا يشربون، وكل طير في السماء يصيح هل لي بلحمي لطفلِ من الأحباب.
يرفع الأطفال رؤوسهم للسماء يحمدون، يشكرون، فيرون نور الله يستقبلهم، والملائكة لهم يلوحون معيدين، والرسل، والأنبياء لهم يبتسمون ضاحكين.
لماذا يا بشر لا نقدم نحن للأطفال حقهم قبل أن نتصلب ؟؟.
لماذا لا نتذكر أنهم وحدهم من يتمسك بعرش الرب ؟؟..
لماذا ننسى أنهم أحباب الله؟؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق